تحسين النسل الجديد- ماسك وغيتس وسياسات الإقصاء باسم المستقبل.

في تصريح لاذع، علّق الملياردير بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت والفاعل الخيري المعروف، على تصرفات إيلون ماسك قائلاً: "إن مشهد أغنى رجل في العالم وهو يعرّض حياة أفقر أطفال العالم للخطر ليس بالصورة الجميلة". جاء هذا الانتقاد خلال مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز المرموقة في وقت سابق من الشهر.
انتقد غيتس، وإن بشكل غير مباشر، الدور الذي يلعبه ماسك في إضعاف دور الوكالة الفدرالية للمساعدات الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، وهي ذراع أساسي في جهود التنمية العالمية، إذ لطالما خصصت مليارات الدولارات لمكافحة الفقر والأمراض على مستوى العالم.
التحول الدراماتيكي حدث عندما شنّ ماسك حملة شعواء لإنشاء ما يُعرف بوزارة الكفاءة الحكومية غير الرسمية (DOGE) التابعة للإدارة الأميركية الحالية بهدف تفكيك الوكالة المذكورة في شهر فبراير/ شباط.
وفي تعليق إضافي، خلال مقابلة في برنامج (The Late Show with Stephen Colbert)، وسّع غيتس من نطاق انتقاده قائلاً: "إذا لم نعدّل هذا المسار سريعًا، فسنشهد وفاة أكثر من مليون طفل إضافي حول العالم".
بغض النظر عن وجهة نظر غيتس أو غيره، فإن استهانة إيلون ماسك بأرواح البشر لا تقتصر على دوره في قيادة وزارة الكفاءة الحكومية (DOGE). بل إن هذا التوجه الفكري يعكس رؤية أعمق داخل الإدارة الأميركية الحالية.
إذ سمحت الإدارة الحالية ببروز نفوذ مجموعة من المؤيدين لفكر "تحسين النسل"، سواء بصيغته التقليدية أو المعاصرة. ويتبنى بعض هؤلاء فلسفة "المدى الطويل" (longtermism)، والتي تؤكد على أن بقاء الجنس البشري وامتداده عبر المجرة يتطلب قيادة نخبوية قادرة على اتخاذ قرارات قاسية، بما في ذلك التضحية بأعداد كبيرة من البشر المعاصرين في سبيل حماية هذا المستقبل البعيد المنشود.
في هذا السياق الحساس، يشارك ماسك وآخرون في صياغة السياسات الأميركية، داخليًا وخارجيًا، على أسس تجمع بين أفكار "تحسين النسل" و"المدى الطويل"، مما يعرض حياة الملايين لأخطار حقيقية ومحتملة.
أبرز رموز تحسين النسل التقليدي في محيط الإدارة الأميركية الحالية
يُعتبر روبرت ف. كينيدي الابن، الذي يشغل منصب وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية (HHS)، مثالاً صارخاً على تبني فكر تحسين النسل التقليدي.
تبرز مواقفه المعارضة للقاحات، وخاصة لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية (MMR)، كدليل قاطع على تبنيه هذا الفكر. ففي التسعينيات، زعمت قلة من العلماء أن هذا اللقاح تحديدًا مسؤول عن ارتفاع معدلات تشخيص التوحد لدى الأطفال. ورغم دحض هذه المزاعم من خلال دراسات علمية عديدة، استمر مناهضو اللقاحات، وعلى رأسهم كينيدي، في تقويض الثقة العامة في برامج التطعيم.
وفي عام 2015، صرّح كينيدي حول لقاح MMR قائلاً: "يتلقون اللقاح، وفي تلك الليلة ترتفع حرارتهم إلى 103 درجات، ينامون، وبعد ثلاثة أشهر يتلف دماغهم. هذه محرقة، هذا ما تفعله ببلدنا". وقد اعتذر لاحقًا عن هذا التشبيه المهين بين التوحد والمحرقة.
وتتجلى نزعته الأخرى في التمييز ضد ذوي الإعاقة، والتي تتداخل أيضًا مع نزعة عنصرية. ففي شهر أبريل/ نيسان، انتقد كينيدي ارتفاع حالات التوحد في أميركا، معتبراً إياها أمراً "يدمر العائلات"، وأضاف أن الأطفال الذين "تراجعوا.. إلى التوحد.. لن يدفعوا ضرائب أبدًا، ولن يعملوا أبدًا، ولن يلعبوا البيسبول، ولن يكتبوا شعرًا، ولن يواعدوا، والكثير منهم لن يستخدموا المرحاض دون مساعدة".
تجاهل كينيدي بإصرار البيانات العلمية التي تؤكد أن التوحد ليس مرضًا ينتشر، بل إن المجتمع أصبح يمتلك أدوات أكثر دقة وتطوراً تساعد على تشخيص المصابين بالتوحد، وهم أفراد ينخرط الكثير منهم في الحياة الاجتماعية والعقلية بشكل فعال.
كما روّج كينيدي في عام 2023 لشائعة معادية للقاحات تحمل مضموناً عنصرياً وتمييزياً وتآمرًا. ففي شهر يوليو/ تموز من ذلك العام، وخلال فعالية لجمع التبرعات لحملته الرئاسية التي أُلغيت لاحقًا، ظهر في مقطع مصوّر زاعمًا أن "كوفيد-19 يستهدف البيض والسود، بينما يتمتع اليهود الأشكناز والصينيون بأعلى درجات المناعة".
هذا الادعاء لا يستند إلى أي دليل علمي؛ إذ لا توجد مؤامرة تستهدف أعراقاً بعينها، كما لا توجد فئة سكانية محصّنة من الفيروس بشكل طبيعي. ومن الواضح أن تصريحات كينيدي العنصرية تنطوي أيضاً على معاداة للسامية.
استخدام بيانات خاصة لأهداف تحسين النسل
وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلن كينيدي عن تفويضه لبرنامجي "ميديكيد" و"ميديكير" بتبادل البيانات الخاصة مع معاهد الصحة الوطنية (NIH) لإنشاء قاعدة بيانات وطنية للمصابين بالتوحد "لكشف الأسباب الجذرية للتوحد" - والذي يعتبره "مرضاً يمكن الوقاية منه" - بحلول شهر سبتمبر/ أيلول. ويتجاوز هذا التصريح حدود الرأي ليذكّر بممارسات دعاة تحسين النسل في القرن الماضي.
فقد استخدمت حكومات الولايات الأميركية، وحكومات فاشية مثل النازية، قوائم مماثلة لعزل المصابين بالتوحد وغيرهم من ذوي الإعاقات عن المجتمع.
في الولايات المتحدة، كان التعقيم القسري وسيلة لحماية "نقاء الجينات"، بينما استخدم النازيون القتل الرحيم. ومن الواضح أن كينيدي يمثل نموذجًا تقليديًا لداعية تحسين نسل معادٍ للقاحات ولذوي الإعاقة وعنصري في آن واحد.
تحسين النسل الجديد: فلسفة المدى الطويل
لم يختفِ فكر "تحسين النسل" في القرن الحادي والعشرين، بل أعاد تقديم نفسه في صورة جديدة تُعرف بفلسفة "المدى الطويل" (Longtermism). هذه الفلسفة تعد امتدادًا حديثًا لمبادئ "الداروينية الاجتماعية" و"البقاء للأصلح" والحركات الإقصائية التي نشأت عنها.
ورغم أنها لا تروج صراحةً لفكرة الحفاظ على "عرق أبيض متفوق"، فإنها تتقاطع بوضوح مع منطق تحسين النسل. يؤمن أنصار "المدى الطويل" بأن إنقاذ البشرية من الانقراض يكمن في تطوير الإنسان ذاته وخلق "بشرٍ أفضل" قادرين على حمل لواء الحضارة نحو المستقبل البعيد.
لكن هذا "التحسين" يستند إلى فرضيتين أساسيتين: الأولى أن الرجال البيض من أصحاب الثروة والنفوذ -مثل إيلون ماسك، وبيل غيتس، وجيف بيزوس- هم الأجدر باتخاذ القرارات المصيرية نيابة عن البشرية جمعاء.
والثانية أن عليهم أن يحددوا من من البشر يمكنه الاستمرار في استخدام موارد الكوكب، ومن يفترض التضحية به، إذ يُنظر إلى مليارات من البشر الحاليين على أنهم عائق محتمل في وجه "مستقبل أفضل" يستحق -في نظرهم- الإنقاذ حتى لو تطلب الأمر إقصاءهم.
ماسك ونظرية "الانتحار الحضاري عبر التعاطف"
كشف ماسك عن قناعته العميقة بشأن من يستحق الحياة ومن لا يستحقها خلال مقابلة مطولة استمرت ثلاث ساعات في بودكاست جو روغن في شهر فبراير/ شباط. وقال ماسك حينها: "نحن نعيش حالة من التعاطف الانتحاري على مستوى الحضارة.. الضعف الجوهري في الحضارة الغربية يكمن في التعاطف. إنه استغلال للتعاطف. إنهم يستغلون ثغرة في الحضارة الغربية، وهي الاستجابة العاطفية".
وبحسب رؤيته، فإن أولئك الذين لا يظهرون تعاطفًا مع "الحضارة ككل" - أي من منظور شامل وبارد- يساهمون، في رأيه، في انتحارها الجماعي.
أما "هم" الذين يشير إليهم ماسك وروغن طوال المقابلة، فهم فئات متعددة تشمل: المهاجرين غير النظاميين، الليبراليين البيض، التقدميين، أعضاء الحزب الديمقراطي، وغيرهم من أفراد مجتمع الميم.
الضمان الاجتماعي وسياسات شيخوخية قاسية
في أوساط أنصار فلسفة "المدى الطويل"، يبرز اسم الملياردير التقني بيتر ثييل، الذي يصف نظام الضمان الاجتماعي الأميركي بأنه "احتيال بين الأجيال".
هذا التصريح يعكس دعمه الصريح لسياسات ماسك في إطار وزارة الكفاءة الحكومية (DOGE)، التي تستهدف تقليص برامج الرعاية الاجتماعية، لا سيما تلك المخصصة لكبار السن.
كما يظهر ذلك توجه الإدارة الأميركية نحو تبني سياسات تتسم بالتمييز العمري والوظيفي، تحت غطاء "تقليص الإنفاق الحكومي"، بينما تعد هذه السياسات في جوهرها امتداداً لفكر تحسين النسل، حيث يجري التلميح - أو التمهيد - لإقصاء الفئات التي تعتبر عبئاً اقتصادياً أو غير منتجة، مثل المسنين وذوي الإعاقات. وهي مقاربة قد تفضي فعلياً إلى تعريض هذه الفئات للخطر.
إعادة تشكيل الحكومة الفدرالية على صورة دعاة تحسين النسل
سعَى كينيدي وماسك إلى إعادة صياغة الحكومة الفدرالية على صورتهما الخاصة كدعاة لتحسين النسل. وقد تعاون كينيدي مع DOGE التابعة لماسك لتقليص التمويل المخصص لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية، ومعاهد الصحة الوطنية، وبرامج اللقاحات، والوقاية من الأوبئة، وأبحاث السرطان، منذ توليه منصبه في منتصف شهر فبراير/ شباط.
يُضاف إلى ذلك، وجود حظر غير رسمي يمنع مسؤولي مراكز مكافحة الأمراض من الإعلان عن انتشار سلالات إنفلونزا الطيور بين الحيوانات والعاملين في مجال صناعة الدواجن.
وعندما سُئل كينيدي في جلسة استماع بالكونغرس بتاريخ 14 مايو/ أيار حول دوره كوزير للصحة في تفكيك الوزارة، أقر بأنه "ربما" سيقوم بتلقيح أطفاله ضد الحصبة في عام 2025.
لكنه، في الجلسة ذاتها، عاد ليشكك في لقاح MMR، مما يعكس موقفه المتحيز ضد الأفراد المصابين بالتوحد، في الوقت الذي تشهد فيه الولايات المتحدة، وخاصة ولاية تكساس، أحد أسوأ موجات تفشي الحصبة خلال الخمسين عاماً الماضية، حيث سُجل أكثر من ألف حالة حتى الآن، معظمها بين الأطفال غير المطعمين، توفي منهم طفلان.